بسم الله الرحمن الرحيم
جـ ـ حكمة التطهير بالتراب والماء:
إن تنظيف وتطهير الإناء الذي ولغ فيه الكلاب بالتراب مع قليل من الماء أقوى في إزالة ما يلتصق به من دسم وأقذار وبيوض الدودة المسببة للكيس المائي.
وبما أن شرعة الإسلام هي لكل زمان ومكان، والتراب متيسر في كل مكان، فاقتضت الحكمة أن يكون التراب في الغسلة الأولى كما هو مفضل وإلا ففي إحدى الغسلات الأجر قبل الأخيرة. وقد يأتي زمان تكتشف فيه فوائد لتطهير ما يلغ فيه الكلاب بالتراب أيضاً.
أما إراقة الماء والطعام الذي ولغ فيه الكلاب فإنها مستحبة شرعاً وواجبة صحياً ولو لم يرد استعمال الإناء. ولفظ الحديث المتقدم يوجبها بقوله صلى الله عليه وسلم :
" فليرقه ثم ليغسله سبع مرات " والحكمة في ذلك سلوك سبيل الوقاية فقد يتلوث الإناء أو الشراب أو الطعام ببيوض تلك الدودة الشريطية فيأتي حيوان أهلي أو إنسان لا علم له بولوغ الكلب أو طفل غافل فيبتلع منه فيتعرض للإصابة بالكيسة المائية. ولو أن هذه الحكمة مكتشفة قديماً لما اختلف العلماء في وجوب الإراقة لعينها، وأجمع الشافعية على ذلك . قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم : هل الإراقة واجبة لعينها أم لا تجب إلا إذا أراد استعمال الإناء أراقه ؟ فيه خلاف، ذكر أكثر أصحابنا: الإراقة لا تجب لعينها، بل هي مستحبة، فإن أراد استعمال الإناء أراقه . أ هـ .
ولا يخفى أن تطهير الإناء باحدى وسائل التطهير التي تذكرها كتب الصحة، زيادة على التطهير بالتراب والماء من جملة سنة الوقاية والحرص على ما ينفع .
د ـ سبق الإسلام :
وهكذا تبين لنا أن الإسلام سبق أيضاً بأحكامه المتعلقة بالكلاب ما توصل إليه الطب الحديث بقرون عديدة، فحذر من اقتناء الكلاب لغير ضرورة، وشدد في تطهير ما تنجسه.
أعطى تلك الأحكام في زمان لم يكن يعرف فيه طبياً أنها السبب الغالب في إصابة الإنسان بداء الكيسة المائية . ثم توالت قرون حتى تم اكتشاف ذلك، فسجل التاريخ معجزة جديدة لخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم دالة على صدق نبوته وأنه رسول الله حقاً إلى الناس كافة على توالي الأزمان.
وفي ذلك درس للمسلم بألا يتوقف أبداً عن تنفيذ تعاليم الإسلام(في الأمر والنهي ) لأنه لم يدرك حكمتها طالما أنه يؤمن بأن الإسلام شرع العليم الأعلى الحكيم الخبير، وصدق الله العظيم : " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" .
والخلاصة : إن التقيد بأحكام الإسلام في تجنب الكلاب وتطهير ماتنجسه يقي من الإصابة بداء الكيسات المائية (الكلبية ) ذالك الداء الوخيم الذي قد يودي بحياة الإنسان إذا استقر في أماكن خطرة كالدماغ مثلاً . هو دائماً يتطلب مداخلة جراحية لاستئصاله . أعاذنا الله تعالى من كل داء وبلاء، وجعلنا جميعاً من التوابين والمتطهرين والمتمسكين بشرعته المتبعين لهدي نبيه .
نجاسة جسم الكلب :
الكلب وما تولد منه نجس العين في المذهب الشافعي والحنبلي .
وقال الحنفية : إنه طاهر العين إلا أن لعابه نجس حال حياته تبعاً لنجاسة لحمه، فلو وقع في بئر وخرج حياً ولم يصب فمه الماء لم يفسد الماء، وكذا لو انتفض من بلله فأصابه شيئاً لم ينجسه .
وقال المالكية : كل حي طاهر العين ولو كان كلباً أو خنزيراً[44].
أقول والله أعلم : يظهر أن الحق في هذه المسألة مع الشافعية، لأن معظم الحيوانات اللبونة تنظف جسمها بلسانها ولعابها كما تنظف بهما شرجها.
وإضافة إلى ذلك فإن براز الكلب ولعابه أثبت الطب خطرهما في نقل بيوض الديدان الشريطية المكورة المشوكة التي تسبب للإنسان ولحيواناته الأهلية الإصابة بالكيسة المائية (الكلبية ) كما أوضحت. فمذهب المالكية وتفريع الحنفية في هذه المسألة لا ينسجمان مع الطب .
من آراء ابن حزم في أحكام المياه :
كثير الاستشهاد بآراء ابن حزم[45] وأقواله في عصرنا هذا وخاصة في السنين الأخيرة. والداعي إلى ذلك غايات متعددة تستأنس من كتابات المستشهدين وسلوكهم وواقع حياتهم. وهاكم أهم تلك الغايات:
1. الاستفادة من رأي سديد أو تعليل صادر عن ابن حزم رحمه الله تعالى . وهذه الغاية لا غبار عليها، لأن الحكمة ضالة المؤمن الفطن.
2. استكمال البحث العلمي وعرض كل ما قيل فيه ليشارك القارئ الكاتب في البحث ومطالعة الأدلة والوصول إلى النتيجة سواء أخذ الباحث برأي ابن حزم أو رد عليه . وهذه الغاية مقبولة أيضاً في البحث العلمي .
3. تبني الكاتب الأخذ بظاهر النصوص الشرعية القريب المنال (مع فصله عن روح الشريعة ومقاصدها) . وسنرى كيف أن تقيد ابن حزم بحرفية ظاهر النص أوقعه في أخطاء لا يؤيدها المنطق العقلي ولا مقاصد الشريعة ولا تعاليم الطب والصحة.
4. التفتيش عن آراء السابقين ولو شاذة لسبغ اسم الموافقة للشريعة على أعمال المسلمين اليوم، لئلا نرى كثرة مخالفاتهم . وهذا عمل ساذج لا يحول العاصين إلى التمسك، بيد أنه يعطي حجة للمنافقين أن يبرروا أعمالهم تجاه المسلمين الصادقين ويثبوا سموهم بين الغافلين والجاهلين.
5. عمل نفاقي لستر الزيغ والعصيان وتبرز المخالفات وتشويه تعاليم الإسلام في أذهان المطلعين بالاستدلال على مشروعية أعمالهم بأن رأي ابن حزم أو غيره
يجيزها ويحكم بعد مخالفتها الشريعة . وشتان بين غايتهم هذه وغاية ابن حزم ولو أخطأ في بعض اجتهاداته رحمه الله تعالى .
وكل إنسان يؤخذ من كلامه، ويترك إلا صاحب العصمة. وإني في ذكر الآراء التي أخطأ فيها ابن حزم لا أقصد تجريحه وإنما أقصد إيضاح خطر الغايات الثلاثة الأخيرة في الاستشهاد بآراء ابن حزم، وخاصة إذا عرضت مع أدلتها دون ذكر أدلة الأئمة الأربعة في بحث استشهاد.
لقد أمتاز ابن حزم بسعة الإطلاع والاشتغال بعلوم عديدة. فكتب في الحديث والفقه والأصول والتاريخ والفرق والأدب والمنطق والنفس، وحفظ لنا في كتبه كثيراً من آراء السلف الفقهية فصارت مرجعاً في هذا الباب على قلة المصادر لمن أراد التعرف على آرائهم.
ولكنه لم يحقق في علم من العلوم التي كتب فيها، وذلك لعدم تخصصه في بعض تلك العلوم أي أنه زاد ثقافته على حساب حرمان نفسه من التخصص، فلم يتفرغ للتحقيق فيما أراده. فظن أن غزارة ثقافته تجيز له الإعجاب بآرائه في العلوم المختلفة وتسفيه آراء مخالفيه فتهجم على أئمة الإسلام والعلم. ومع أنه محدث فقد أقدم على الحكم بالجهالة على كثير من الرواة مع شهرتهم عند أئمة العلم بالرجال.
وبعض من أسند إلى أسمائهم الجهالة أبو عيسى الترمذي الإمام المشهور صاحب السنن[46]. وضعف ابن حزم كثيراً من الأحاديث الثابتة نتيجة حكمه على أحد رجال السنة بالجهالة. وإن كثيراً من الأحاديث التي ضعفها تخالف آراءه التي أقتنع بها.
لقد كان رحمه الله تعالى يأخذ بظاهر النصوص وإن أدى ذلك إلى نتائج تتنافى مع مقاصد الشريعة ومع المنطق العقلي. ولذلك وقع في أخطاء فاحشة لم يقع في مثلها غيره من المجتهدين والفقهاء، وهو الذي يقيم النكير عليهم وينقدهم نقداً لاذعاً أو ساخراً فيما يظن أنه خطأ اجتهادي منهم.
ولقد أشار إلى أخطائه في كتابه المحلى الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر القاضي الشرعي في تعليقاته على ذلك الكتاب [47]تغمدهما الله بالرحمة .
أ. يجيز ابن حزم لمن بال في الماء الراكد ولغيره أن يشرب منه إن لم يتغير أحد أوصافه، مع أن ذلك يتنافى مع الذوق السليم ومع روح النظافة والطهارة الشرعية، ومع أدلة نجاسة الماء القليل بقليل النجاسة، ومع سنية استعذاب الماء وطلب السقيا من المياه الطيبة، ومع الحكم بعدم صلاحية ذلك الماء لوضوء البائل فيه، كما يتنافى مع الطب الذي يقرر أن بعض الأبوال تحوي جراثيم وبعضها يحتوي بيوض البلهارزيا أو غيرها من الطفيليات.
ب. ويفرق ابن حزم بين البول مباشرة في الماء الراكد وبين البول في جواره فجرى البول إليه. فالبول مباشرة يمنع البائل الوضوء والغسل من ذلك الماء، بينما يجيز له في الحالة الثانية إن لم يتغير أحد أوصاف الماء.
ت. ويجيز ابن حزم لغير البائل أن يتوضأ ويغتسل من ذلك الماء، لأن النهي ورد بخصوص البائل.
ان تلك الأحكام التي أخطأ فيها ابن حزم خطأ فاحشاً مذكورة في كتابه المحلى في المسألة (136) حيث يقول : إن البائل في الماء الراكد الذي لا يجري حرام عليه الوضوء بذلك الماء والاغتسال به لفرض أو لغيره، وحكمه التيمم إن لم يجد غيره. وذلك الماء طاهر حلال شربه له ولغيره إن لم يغير البول شيئاً من أوصافه .وحلال الوضوء به والغسل به لغيره . فلو أحدث في الماء أو بال خارجاً منه، ثم جرى البول فيه فهو طاهر، يجوز الوضوء منه والغسل له ولغيره إلا أن يغير ذلك البول أو الحدث شيئاً من أوصاف الماء فلا يجزي حينئذ استعماله أصلاً، لا له ولا لغيره . أ هـ.
لقد سق داود بن علي الظاهري [48] ابن حزم في تلك الأحكام المتجافية عن الصواب. قال الإمام النووي في شرحه على مسلم في باب النهي عن البول في الماء الراكد: لم يخالف في هذا أحد من العلماء إلا ما حكي عن داود بن علي الظاهري: أن النهي مختص ببول الإنسان بنفسه، وأن الغائط ليس كالبول، وكذا إذا بال في إناء ثم صبه في الماء أو بال بقرب الماء. وهذا الذي ذهب إليه خلاف إجماع العلماء، وهو أقبح ما نقل عنه في الجمود على الظاهر. أ هـ .
ث. يحكم ابن حزم بنجاسة لعاب الكلب ثم يحكم بطهارة ما أكل منه الكلب من طعام، مع أن خطم الكلب بتماس غالب مع لسانه ولعابه.
ج. ويحكم بنجاسة عرق الكلب ثم يحكم بطهارة ما وقع فيه الكلب من شراب وطعام أو ما دخل فيه بعض أعضائه.. مع أن جلد الكلب أول ما يمسه عرقه،كما أن الكلب ينظف جلده وشعره بلسانه ولعابه.
ح. ولا يوجب ابن حزم غسل يد الإنسان إذا ولغ فيها الكلب لأنها ليست بإناء، والأمر بالغسل جاء للإناء..
أراد ابن حزم أن يبتعد عن القياس الذي لا يتعرف به فوقع في مثل هذه الأحكام اللامنطقية.
إن الأحكام الثلاثة الأخيرة لابن حزم مسجلة في المسألة (127) من كتابه المحلى حيث يقول : فإن أكل الكلب في الإناء ولم يلغ فيه أو أدخل رجله أو ذنبه أو وقع بكله فيه لم يلزم غسل الإناء و لا هرق ما فيه البتة، وهو حلال طاهر كله كما كان، وكذلك لو ولغ الكلب في بقعة من الأرض أو في يد إنسان أوفي ما لا يسمى إناء فلا يلزم غسل شيء من ذلك ولا هرق ما فيه . أ هـ.
قال المرحوم الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على هذه الفقرة : كل هذا تغال ومبالغة في التمسك بالظاهر دون نظر إلى معاني الشريعة وما يتفق مع المعقول.
فما حرّم الله شيئاً إلا وهو قذر مؤذ، ولا حكم النجاسة شيء إلا وكان مما تتجنبه الطباع النقية، وإزالة النجاسات واجب معقول المعنى، فمن العجيب أن يفرق ابن حزم بين أكل الكلب من الإناء وبين شربه.
بل الأعجب أن يفرق بين الشرب وبين وقوع الكلب كله في الإناء..
أقول : إن الطب أيضاً يعجب من آراء ابن جزم في أحكام المياه تلك الآراء التي تتنافى مع مبادئ مع الصحة، ويؤدي الأخذ بها إلى انتشار الأمراض والأوبئة. وقد بينت فعل المياه الملوثة في نقل الأمراض، وأن الكلاب هي السبب الغالب في إصابة الإنسان بالكيسات المائية .
كلمة الختام :
لقد أوضحت فعل المياه في نشر الأمراض، وبينت هدي النبوة في وقاية المياه من التلوث، كما أوضحت المقاصد الصحية في أحكام المياه وبينت الأحكام التي هي أقرب إلى الأدلة الشرعية والاعتبارات الطبية، ليراعيها المسلم في التطبيق وخاصة في مياه شربه ثم في مياه طهوره ونظافة جسمه، ولو تساهل في مذهبه الفقهي مراعاة للصحة والمذاهب الأخرى.
فإن الأخذ بأسباب الوقاية الصحية مستحب. وإن مراعاة المذاهب مستحبة أيضاً، نص على ذلك فقهاؤها.
والله تعالى أعلم .