بسم الله الرحمن الرحيم
هدي النبوة في وقاية المياه من التلوث:
لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وصايا في منهاج الحياة اليومية تحفظ المياه من التلوث.
بيّنها عليه السلام قبل اكتشاف العوامل الممرضة التي يحويها الماء الملوث بأكثر من عشرة قرون، فسجل له التاريخ سبقاً في المجال الصحي أيضاً.
وهاكم طائفة من تلك الوصايا:
1. النهي عن إدخال المستيقظ يده في الإناء قبل أن يغسلها ويطهرها فلعله مسّ أو حك بها سوأته أو عضواً مريضاً متقرحاً من جسمه وهو نائم لا يشعر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده"[8].
2. تنظيم استعمال اليدين بإبعاد اليد اليمنى عن مجالات الأقذار والتلوث، وإن كان التطهير يتناولها. وذلك مفيد في حفظ الماء من التلوث حتى في زماننا، ففي الريف والبادية مثلاً حيث لا توجد شبكة توزيع للمياه ولا حنفيات مما يضطر معه الإنسان إلى غرفة الماء، وذلك يقتضي أن تكون إحدى اليدين أكثر طهارة وأبعد عن التلوث لتستعمل في الغرفة. فخصص الشارع الحكيم اليد اليمنى لذلك ولكن أمر يستدعي زيادة في الطهارة كتناول الطعام والشراب وكالمصافحة، أو يستدعي زيادة في الطهارة كتناول الطعام والشراب وكالمصافحة، أو يستدعي تعظيماً كتناول القرآن والأشياء المحترمة. ونهى أن تمس باليد اليمنى العورة أو النجاسة أو الأقذار والأذى .
فعن عائشة رضي الله عنها : " كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوه وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى " [9] وقال عليه الصلاة والسلام : "إذا بال أحدكم فلا يأخذ ذكره بيمينه ولا يستنج بيمينه ولا يتنفس في الإناء "[10].
3. النهي عن الشرب من في السقاء: روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرب من فيّ السقاء" .
4. النهي عن التنفس في إناء الشرب وعن النفخ فيه، لمنع تغير رائحة الإناء ووصول لعاب الإنسان ورذاذ فمه وما يمكن أن يحمله من جراثيم ممرضة حتى ولو كان حاملها صحيحاً غير مريض.
فإذا كان الشارب شديد العطش لا يرتوي بتنفس واحد فليبعد الإناء عن فيه ليتنفس خارجه ثم ليعد للشرب وذلك مفضل من الناحية الصحية وفي الأدب الإنساني وفي الشرع. قال عليه الصلاة والسلام : " إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، فإذا أراد أن يعود فلينحِّ الإناء إن كان يريد "[11].
وعن أبي سعيد الخدري: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل : القذاة أراها في الإناء؟ قال : أهرقها، قال فإني لا أروى من نفس واحد . قال : فأبن القدح إذن عن فيك "[12].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " نهى رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه "[13].
ومن المفيد صحياً أن يعتاد الإنسان الشرب على دفعات ثلاثة يتنفس في نهاية كل دفعة خارج الإناء كما هي السنة النبوية. وذلك حفظاً للماء وأبعد عن التنفس فيه وأمرأ أي أسهل أنسياغاً فلا يشرق، وأكثر ريّاً للشارب فيأخذ من الماء مع تقطيع الشرب أقل مما لو تجرعه دفعة واحدة .
وذلك أيضاً أبرأ أي أسلم من مرض أو أذى يحصل بسبب الشرب في نفس واحد، لأن الشارب إذا اعتاد الشرب بنفس واحد وأسرف في تناول الماء أدى به الأمر إلى توسع المعدة، أو إلى اضطراب الهضم. كما إن تجرع المتعرق الماء البارد بنفس واحد دون تقطع يؤدي أحياناً إلى السعال بتخريش الحنجرة والرغامى أو بالتهابهما أو التهاب القصبات.
تلك فوائد الشرب في ثلاثة أنفاس، أشار إليها الحديث الشريف، فعن أنس رضي الله تعالى عنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنفس في الشراب ثلاثاً ويقول: إنه أروى وأبرأ وأمرأ . قال أنس : فأنا أتنفس في الشراب ثلاثاً "[14].
قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم : وقوله : "كان يتنفس في الشراب " معناه في أثناء شربه من الإناء. وعن أبي هريرة رضي الله عنه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب في ثلاثة أنفاس، إذا أدنى الإناء إلى فيه يسمي الله فغذا أخره حمد الله، يفعل ذلك ثلاثاً "[15].
5. الأمر بتغطية الإناء وربط سقاء الماء حتى لا يصل إليه الغبار ولا الحشرات المؤذية والحاملة للجراثيم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أطفئوا المصابيح إذا رقدتم، وغلّقوا الأبواب، وأوكوا الأسقية، وخمّروا الطعام والشراب ولو بعود تعرض عليه"[16].
6. النهي عن الاغتسال في الماء الواقف الساكن الذي لا يجري، حتى لا يتلوث بما يكون على سطح الجسم من أوساخ وجراثيم ومفرزات. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب، قالوا كيف يفعل يا أبا هريرة، قال : يتناوله تناولاً "[17].
وقال عليه السلام: " لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة "[18].
7. النهي عن التبول في الماء الدائم، والحكم على الماء القليل بنجاسة بالبول وعدم صلاحيته حينئذ للتطهر به فضلاً عن الشرب منه. وقد سلف أن وضحت ما ينقله البول من أمراض.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه " .
وفي رواية الترمزي والنسائي:" لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه أو يتوضأ " [19]
هذا وإذا كان التبول في الماء الدائم محرماً ومنجساً له، فإن التبرز فيه أشد تحريماً ونجاسة.
8. النهي عن التبرز قرب الماء، لأن الماء بالبراز ينقل كثيراً من الأمراض كما وضحت سابقاً، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الملاعن الثلاثة : البراز في الموارد وقارعة الطريق والظلِّ "[20].
النجـاســات :
إن معظم مصادر تلوث المياه ونشر الجراثيم والطفيليات محكوم عليها في الشرع بالنجاسة. وإن الأحاديث النبوية الشريفة لتشير إلى ذلك.
وإذا كانت بعض الأدلة الشرعية واضحة وقطعية الدلالة على نجاسة بعض الأشياء، فهناك أدلة ليست قطعية الدلالة، اختلف معها المجتهدون في طريقة الاستدلال والاستنباط فاختلفوا في الحكم على نجاسة بعض الأشياء الأخرى، ولا يتسع المجال هنا لذكرها والتفصيل فيها.
اتفق المجتهدون والفقهاء السابقون على نجاسة أربعة أعيان:
1. ميتة الحيوان ذي الدم الذي ليس بمائي
2. لحم الخنزير بأي سبب مذهب لحياته.
3. دم الحيوان الذي ليس بمائي انفصل من الحي أو الميت إذا كان مسفوحاً أعني كثيراً.
وسنرى إن شاء الله تعالى، المقاصد الصحية في الحكم بنجاسة الأعيان الثلاثة وتحريم تناولها في بحث المطعومات المحرمة.
4. بول الإنسان ورجيعه. وقد مر معنا ما ينقلانه من أمراض.
هذا وإن البول، وإن كان في معظم الأصحاء عقيماً خالياً من الجراثيم والطفيليات، إلا أنه مستقذر سريع التخمر، تتفكك ذرات البولة فيه إلى نشادر فتزداد رائحة كراهة، كما أنه وسط صالح لتكاثر الجراثيم فيه. ولا يمكن إثبات خلوه من الجراثيم إلا بعد زرعه مخبرياً.
ولذا حكم الشارع على بول الإنسان بالنجاسة كما حكم على برازه.
إن إزالة النجاسة واجبة عند أبي حنيفة والشافعي، وذلك من الأبدان ثم الثياب ثم المساجد ومواضع الصلاة. ويؤيدهم في حكمهم ذلك الدليل الشرعي والاعتبار الصحي.
وأشير هنا إلى أن الوقاية الصحية تتلاءم مع مراعاة المذهب في تجنب ما اختلف في الحكم على نجاسته وإزالته وتطهير محله، وذلك لأن الكثير مما اختلف فيه مستقذر، أو مستنبت صالح لتكاثر الجراثيم، أو أنه سريع التفسخ والتخمر فيزداد قذارة وأذى وخبثاً.
والله تعالى يحب المتطهرين أي المتنزهين عن القذارة والأذى .
كما أشير إلى أن النجاسة المعفو عنها، إنما عفي عنها لدفع الحرج عن الإنسان في حياته اليومية التي تتخللها العبادات المشروطة لها الطهارة. أما الأفضل فهو التطهر منها فوراً وإلا ففي أقرب فرصة. ولا يعني العفو عنها طهارتها، فإنها مثلاً تنجس الماء القليل إذا حلت فيه وتنقل إليه الجراثيم التي تحملها.
الماء المتنجس:
هو نوعان عند الفقهاء:
(الأول): ما كان طهوراً في الأصل وحلّت فيه نجاسات أو لا قته فغيرت أحد أوصافه الثلاثة (اللون والطعم والرائحة) قليلاً كان أو كثيراً.
إن تغير أحد الأوصاف دليل حسِّي على كثرة التلوث من الناحية الصحية.
(الثاني) : ما كان طهوراً في الأصل قليلاً وحلت به نجاسات لم تغير أحد أوصافه . وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
أما المالكية فقد قالوا : إن القليل من الماء الطهور، إذا حلت فيه نجاسة لم تغير أحد أوصافه، باق على طهوريته، إلا أنه يكره استعماله إن وجد غيره مراعاة للخلاف[21].
يؤيد الدليل الشرعي والاعتبار الصحي المذاهب الثلاثة فيما ذهبت إليه من أن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة ولو لم تتغير أحد أوصافه.
أما الدليل الشرعي فهو نهيه صلى الله عليه وسلم عن إدخال المستيقظ يده في الإناء قبل أن يغسلها، وعن الاغتسال في الماء الواقف الدائم، وعن التبول في الماء الدائم، وعن الوضوء والغسل من ذلك الماء الذي بال فيه. وقد مرت معنا أحاديث ذلك النهي، وسيأتي حديث القلّتين مؤيداً الاستنباط منها بان الماء القليل ينجس بالنجاسة القليلة . وذلك حكم يؤيده أيضاً الذوق السليم والمنطق الصحيح وفن الصحة القديم والحديث.
ولقد أوضحت في طبيعة البحث فعل المياه الملوثة في نقل الجراثيم والطفيليات وأمراضها. وأشير هنا إلى أن العدوى وشدتها لهما علاقة بكثرة الجراثيم الواردة . فالماء القليل أسرع تلوثاً، وإن تلوث يصبح أكثر نقلاً للأمراض.
لذلك كله يجب أن يؤول حديث بئر بضاعة من " أن الماء لا ينجس شيء" بما يتلاءم مع أحاديث النهي السابق وحديث القلتين، لا أن نؤولها كلها من أجل الأخذ بظاهر حديث بئر بضاعة. وفي تأويل بئر بضاعة كلام طويل للإمام النووي في كتابه المجموع، فمن أحب فليرجع إليه.
اختلفت الحنفية والشافعية والحنابلة في الحد بين الماء القليل والماء الكثير.
أخذ الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل بحديث القلتين الذي صح عندهما وعند الكثيرين من أئمة الحديث، والذي يفيد أن الماء الذي هو دون قلتين يتنجس بحلول النجاسة فيه ويحمل الخبث دن نظر إلى تغيير أوصافه.
ففي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من الدواب والسباع ؟ فقال : إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث "[22].
قال الترمذي بعد ذكره حديث القلتين : وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق قالوا : إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء ما لم يتغير ريحه أو طعمه، وقالوا : يكون نحواً من خمس قريب.
وقال الخطابي في معالم السنن: ورد من غير طريق أبي داود " إذا كان الماء قلتين بقلال هَجَر.."[23] وهي أكبر ما يكون من القلال وأشهرها. وقد قدر العلماء القلتين بخمس قرب ومنهم من قدرها بخمسمائة رطل.
وقال الإمام ابن الأثير الجزري في جامع الأصول : القلة إناء للعرب كالجرة الكبيرة أو الحب وهي معروفة بالحجاز وهجر، تسع القلة مزادة من الماء، وقد قدرها الفقهاء مئتين وخمسين رطلاً إلى ثلاثمائة .
وفي كتاب نيل المآرب (في المذهب الحنبيلي) تقدر القلتان بخمسائمة رطل عراقي أو بمئة وسبعة أرطال دمشقية.
وفي الفقه على المذاهب الأربعة، تقدر القلتان وزناً بالرطل المصري بأربعمائة وستة وأربعين رطلاً وثلاثة أسباع الرطل.
أقوال : مما لا شك أن الرطل الشامي كان يختلف عن الرطل العراقي والبغدادي والرطل المصري، وأن القلال الهجرية ليست متساوي تماماً، وإنما هي متقاربة في السعة. وعليه فإن تحديد سعة القلة من الماء إنما هو تقريبي ولذلك جرى اختلاف يسير بين العلماء في تقدير سعة أو وزن القلتين .
إن صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز عيون السود: أمين الفتوى في حمص قدر القلتين في رسالة له بـ 162 كيلو غراماً[24].
وتقدر القلتان حجماً في إناء أو مكان مربع بسعة مكعب طول كل ضلع منه ذراع وربع ذراع، بذراع الآدمي المتوسط . ومقدارها في مكان مستدير سعة أسطوانة : قطر كل من قاعدتيها ذراع، وارتفاعها ذراعان ونصف ذراع[25].
ب ـ أما الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى فإنه لم يثبت عنده حديث القلتين . وبما أن كثيراً من الأحاديث الشريفة تشير إلى أن الماء القليل ينجس بقليل النجاسة فلا بد من تعيين حد تقريبي بين الماء القليل والماء الكثير فعينه من جهة القياس وذلك إنه اعتبر سريان النجاسة في جميع الماء بسريان الحركة فإذا كان الماء بحيث يظن أن النجاسة لا يمكن فيها أن تسري في جميعه فالماء طاهر[26].
وعبر عن ذلك فقهاء الحنفية بقولهم : كل ما لا يخلص بعضه إلى بعض لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، وقولهم : كل ما لا يتحرك أحد طرفيه، بتحرك الطرف الآخر لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم تغير أحد أوصافه.
وامتحن الفقهاء بعدئذ الخلوص بالمساحة فوجدوه عشراً في عشر فقدروه بذلك تيسيراً . والمختار في العمق ما لا ينحسر أسفله بالغرف[27]. وعلى هذا فكل ماء لا ينحسر أسفله بالغرف، وكانت سطحه مئة ذراع مربع بالذراع المتوسط فهو ماء كثير عند الحنفية.
هذا وأعيد ما نبهت علهي في بحث الماء الشريب بأن الحكم بطهورية الماء أو بطهارته أو بعدم تنجسه لا يعني أنه صالح للشرب من الوجهتين الدينية والصحية . فإذا ثبت صحياً أن الماء ملوث ينقل الأمراض فإنه يجب التقيد بالتعاليم الصحية المتعلقة به. وإذا أضطر إليه فيجب إصلاحه كما مر أما الحكم الشرعي بعدم تنجسه فإنما هو تيسير من الدين ودفع للحرج في استعمال ذلك الماء في المقاصد الأخرى غير الشرب، ولأن الغالب في الماء الكثير الملوث والذي لم يتغير أحد أوصافه أن يكون تلوثه زهيداً أو أن لا يؤثر سوءً إذا استعمل لغرض غير الشرب، على أنه إذا علم المسلم أن ذلك الماء يؤدي إلى مرض أو ضر ولو استعمل للنظافة وغير الشرب وجب عليه تجنبه ابتعاداً عن إلقاء النفس إلى التهلكة وحرصاً على ما ينفع وذلك من الدين .