بسم الله الرحمن الرحيم
سؤر الحيوان :
السؤر هو فضلة الماء القليل الذي شُرب منه.
اتفق الأئمة الأربعة على طهارة أسآر بهيمة الأنعام، واختلفوا فيما عدا ذلك اختلافاً كبيراً. والمسألة في كثير مما اختلفوا فيه اجتهادية محضة، يعسر أن يوجد فيها ترجيح جازم كما قال صاحب بداية المجتهد.
1. ذهب الحنفية إلى أن سؤر كل حيوان مأكول اللحم طاهر، وأن سؤر سباع البهائم نجسن، وأن سؤر الهرة والدجاجة المخلاّة وسباع الطير وسواكن البيوت مكروه، وأن سؤر الحمار والبغل مشكوك بطهارته لا يجوز الوضوء به [28].
2. وذهب الشافعية إلى أن كل حيوان طاهر السؤر ما عدا الخنزير والكلب[29].
3. وذهب الحنابلة إلى أن سؤر كل حيوان طاهر في الحياة طاهر ولو لم يؤكل لحمه كالهرة، والفأرة. وكل حيوان مأكول كالغنم والماعز والخيل والبقر والإبل وبعض الطيور، فسؤره وبوله وروثه ومنيه ولبنه طاهر إن كان أكثر علفه الطاهر، وإن كان أكثر علفه النجاسة فلحمه وجميع ما ذكر نجس حتى يحبس ويطعم الطاهرات ثلاثة أيام، عندها يعود لطهارته[30].
4. وعن الإمام مالك روايتان، إحداهما : أن كل حيوان طاهر السؤر، وثانيهما : تستثنى الخنزير فقط [31]
أما من الوجهة الصحية فإن الطب وفن الصحة يدعمان بقوة الحكم بنجاسة سؤر الكلب والخنزير. أما بقية الأسآر التي فيها حكم بالنجاسة أو الكراهة في أحد المذاهب فلا تعدم ملحظاً صحياً أقل ما يقال فيه: إنها لا تصلح للشرب لعدم ملحظاً صحياً أقل ما يقال فيه : إنها لا تصلح للشرب لعدم التأكد من تجافي فمها الأقذار والنجاسات ومن خلو لعابها من الجراثيم . وقد فرق سابقاً بين الماء الشريب فليذكر ذلك .
نجاسة سؤر السباع:
سأبين قريباً أن الكلاب هي السبب الغالب في إصابة الإنسان وحيواناته المجترة بداء الكيسة المائية، وأن الذئاب وبنات آوى من السباع يمكن أيضاً أن تكون سبب هذا الداء في الإنسان والحيوانات اللبونة الأخرى .
وبما أن السباع تأكل الجيف أيضاً، فإن فمها يتلوث من جراثيم تلك الجيف كما يتلوث من تنظيف استها بلسانها. وعلى ذلك فإن حديث القلتين السابق والنظرة الطبية يؤيد أن نجاسة سؤر السباع كما هو مذهب ابن القاسم والإمام أبي حنيفة. قال الإمام ابن الأثير الجزري في كتابه جامع الأصول في أحاديث الرسول بعد ذكره حديث القلتين: قال الخطابي [32] : وقد استدل بهذا الحديث من يرى سؤر السباع نجساً لقوله وما ينوبه من السباع، أي يطرقه ويرده، إذ لولا أن شرب السباع منه ينجسه لما كان لسؤالهم عنه ولا لجوابه صلى الله عليه وسلم إياهم بتقدير القلتين معنى . أ هـ .
وروى مالك في موطئه : " أن عمر وعمرو بن العاص وردا حوضاً، فقال عمرو بن العاص : يا صاحب الحوض أترد السباع ماءك هذا ؟ فقال عمر : يا صاحب الحوض لا تخبرنا " . فولا أنه كان إذا أخبر بورود السباع يتعذر عليهما استعماله لما نهاه عن ذلك[33].
وتأويل الأحاديث التي تفيد طهارة سؤر السباع أنه كان في الابتداء قبل تحريم لحوم السباع، أو وقع السؤال في الحياض الكبار[34].
نجاسة سؤر الخنزير:
الخنزير حيوان قذر شره يلتهم الأقذار والنجاسة أيضاً. يقول تعالى في حقه : " .. أو لحم خنزير فإنه رجس.. " [35] وما هو رجس في عينه فهو نجس لعينه. ويزداد فمه ولعابه نجاسة بالتهام الأقذار والنجاسات، فسؤره كسؤر الكلب أحق بحكم النجاسة من الأسآر الأخرى .
وسأفصل إن شاء الله تعالى في بحث المطعومات المحرمة ما ينقله الخنزير من أمراض.
نجاسة سؤر الكلب :
إن الأدلة الشرعية والنظرية الطبية الصحية تدل بقوة على نجاسة سؤر الكلب والتشديد في تطهير ما يلغ فيه الكلب.
أ- الدليل الشرعي:
روى الإمام مسلم في صحيحه في باب حكم ولوغ الكلب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات [36] " ثم روى عنه بلفظ " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب [37] " ثم روى عن ابن المغفل مرفوعاً بلفظ " إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات، وعفّروه الثامنة في التراب " .
روى الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً : " يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات، أولاهن أو أخراهن بالتراب، وإذا ولغت فيه الهرة غسل مرة [38] " .
قال الإمام النووي [39] : وقد روى البيهقي وغيره هذه الروايات كلها، وفيها دليل على أن التقيد بـ " الأولى" وغيرها ليس على الاشتراط بل المراد إحداهن . وأما رواية " وعفروه الثامنة بالتراب" فمذهبنا ومذهب الجماهير أن المراد اغسلوه سبعاً، واحدة منهن بالتراب مع الماء، فكأن التراب قائم غسله فسميت ثامنة لهذا أ. هـ .
قال في المهذب : " فإذا ولغ الكلب في إناء أو أدخل عضواً منه فيه وهو رطب لم يطهر الإناء حتى يغسل سبع مرات إحداهن بالتربة، والأفضل أن يجعل التراب في غير السابعة ليرد عليه ما ينظفه وفي أيهما جعل جاز لعموم الخبر.
وقال الإمام النووي في شرحه : وقد اختلف العلماء في ولوغ الكلب، فمذهبنا أن ينجس ما ولغ فيه، ويجب غسل إنائه سبع مرات إحداهن بالتراب، وبهذا قال أكثر العلماء . حكى ابن المنذر وجوب الغسل سبعاً عن أبي هريرة ابن عباس وعروة بن الزبير وطاوس وعمرو بن دينار ومالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيدة وأبي ثور . قال ابن المنذر : وبه أقول .
وقال النووي أيضاً: يستحب جعل التراب في الأولى فإن لم يفعل ففي غير السابعة أولى فأن جعله في السابعة جاز . أ . هـ .
إن وجوب غسل ما ولغ فيه الكلب سبع مرات هو مذهب الشافعية كما وضحه الإمام النووي .
أما الحنفية فقد أوجبوا غسله ثلاث مرات لأنه فعل الصحابي أبي هريرة رضي الله عنه الذي رويت عنه أيضاً أحاديث(سبع مرات) . وجعلوا إبلاغ الغسل سبعاً مندوباً للروايات الأخرى .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه : " أنه كان إذا ولغ الكلب في الإناء اهراقه ثم غسله ثلاث مرات [40] " فتعارض عمله مع حديث السبع، وهناك دلالة على تقدم حديث السبع للعلم بما كان من التشديد في أمر الكلاب أو الأمر حتى أمر بقتلها فيتبعه حكم ما كان معه وفي عمل أبي هريرة على خلاف كمية ما روى دلالة ظاهرة على نسخ الغسل سبع مرات، لأنه تركه العمل به بمنزلة روايته للناسخ[41].
ب- المقصد الصحي :
تعيش في أمعاء الكلاب والذئاب وبنات آوى ديدان تعرف باسم (الشريطية المكورة المشوكة ) فيكون برازها مفعماً ببعوض هذه الديدان .
وقد يتلوث فمها بتلك البيوض من برازها، لأنها تنظف شرجها بلسانها.
وقد يتلوث فمها بتلك البيوض من برازها، لأنها تنظف شرجها بلسانها.
فإذا تلوث طعام الإنسان أو ماء شربه ببراز أو فم تلك الكلاب أصبحا خطراً عليه إذا تناولهما، لأن قشرة تلك البيوض تهضم ويخرج منها الجنين المسدس الشصوص فيخترق جدار المعدة أو الأمعاء، ويسلك أحد طريقين الطريق الدموي أو الطريق اللنفاوي أو الاثنين معاً. وفي أي عضو يستقر هذا الجنين يأخذ بالنمو رويداً حتى يشكل الكيس المائي(أو الكيس الكلبي ) الذي يصبح خطراً على العضو المؤوف به أو على حياة الإنسان.
قد يصاب الإنسان بالكيس المائي ، وكذلك قد تصاب الحيوانات اللبونة وخاصة آكلة اللحم والخنازير والحيوانات المجترة والقاضمة. فإذا أكل الكلب أو الذئب مثلاً من اللحم المؤوف بالكيسة المائية فإن الرؤوس الكامنة أو الأجنة المختبئة في الكيس تبدو بعد الإنحلال غشائها، وتصير بعد شهر تقريباً دودة كهلة في معي الكلب أو الذئب ويصبح برازه محتوياً على بيوضها. وقد يصاب الحيوان بعوارض مميتة إذا كان عدد هذه الأجنة كثيراً.
الوقاية : بما أن داء الكيس المائي وخيم ينتقل إلى ا لبشر بواسطة الكلاب غالباً، فخير واسطة في الوقاية إذن هي اجتناب التعرض للتلوث بهذا الحيوان النجس مطلقاً كما هو في تعاليم الدين الإسلامي، وتحديد اختلاطها بالبشر ما أمكن وذلك بما يلي :
1. بإتلاف الكلاب الضالة، وتحديد ما يقتنى منها.
لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في فترة من الزمن بقتل الكلاب ثم أباح استبقاءها حية ولكنه حدد ما يقتنى منها.
قد تكون تلك الفترة تشديد تجاه تساهل العرب في جاهليتهم في أمر الكلاب. وقد تكون تلك الفترة ظهر فيها مرض الكلب (السُّعار) بين الكلاب فيخشى أن تعرض إنساناً أو حيواناً فتعديه بمرضها، إضافة إلى أنها سبب الإصابة بالكيسة المائية كما بينت. وتذكر كتب الطب الحديث أنه لا يمكن الاكتفاء بقتل الكلاب المسعورة وحدها، لأنه الاختبارات الصحية أثبتت أن لعاب الكلب يصبح مؤذياً بعضه قبل ظهور الأعراض الكلبية عليه بثلاثة أيام.
ويحتمل أن يكون أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب بسبب كثرة إصابتها بالشريطة المكورة المشوكة مما يؤدي إلى كثرة إصابة الإنسان وحيواناته المجترة بالكيسة المائية بتناول طعام أو شراب ملوث بلعابها أو برازها.
وأياً كان السبب في أمر الرسول بقتل الكلاب فإنما هو بوحي من الله تعالى الذي وسع علمه كل شيء.
فعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال : " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، ثم قال : ما بالهم وبال الكلاب؟ ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم، وقال إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفّروه الثامنة في التراب[42] " .
وقال عليه الصلاة والسلام : " من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم[43]".
2. بوضع الضرائب على الكلاب الأهلية التي تقتنى لضرورة ماسة .
3. بالعناية بالكلاب اللازمة منها في الحراسة أو الصيد أو أعمال الشرطة بحمايتها من أكل تلك الأكياس المائية في المجازر أو خارجها، وإتلاف كل عضو توجد فيه هذه الأكياس بالحرق، وتفهيم أصحاب الكلاب ما ينشأ عن إطعام كلابهم تلك الأعضاء المؤوفة ليجتنبوا ذلك .