صاحب مدونة الفقه المالكي
هو عبد السلام بن سعيد
بن حبيب التنوخي، الملقب بسحنون، لشدة ذكائه وحدة فهمه تشبيها بطائر يدعى سحنونا
حديد البصر. أصله شامي من مدينة حمص. قدم أبوه القيروان في جند حمص فولد له فيها
ابنه "عبد السلام"، سنة ستين ومائة. وتلقى العلم بالقيروان ثم رحل إلى تونس ومنها
إلى مصر والشام والحجاز وأخذ الفقه عن مشاهير الفقهاء وعاد إلى القيروان سنة 191
هـ.
وتولى القضاء بالقيروان في عهد أميرها "محمد بن الأغلب"، سنة أربع وثلاثين
ومائتين، ولشدة تمسكه بالعدل سمي (سراج القيروان)، ولم يزل قاضيا إلى أن مات. كان
لا يأخذ لنفسه رزقا ولا صلة من السلطان في قضائه. وكان من كبار الفقهاء، مفتياً، ذا
شهرة واسعة، وإليه انتهت الرئاسة بالمغرب، وعنه انتشر مذهب مالك هناك. جاء الناس
يطلبون علمه من إفريقية والأندلس، وتخرج عليه فقهاء كثيرون. كان زاهدا لا يهاب
سلطانا في حق يقوله، وكان رفيع القدر أبي النفس.
وأخذ العلم عن: ابن غانم، وابن
الاَشرس، وغيرهما. ورحل إلى مصر والحجاز، فسمع من: عبد الرحمان بن القاسم، وعبد
اللّه بن وهب، وأشهب بن عبد العزيز، ووكيع بن الجرّاح، وسفيان بن عيينة، وآخرين، ثم
انصرف إلى بلده.
أخذ عنه: ولده محمد، وأصبغ القرطبي، وبَقيّ بن مَخْلَد، وحمديس،
وغيرهم كثير.
قصة المدونة
وصنّف سحنون «المدوَّنة الكبرى» في فروع
المذهب المالكي، وكان أسد بن الفرات بن سنان القيرواني (توفى سنة 214 هجرية ) أوّل
من شرع في تصنيفها، فكانت تسمى «الاَسدية».
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء:
وأصل «المدونة» أسئلة سألها أسد بن الفرات لابن القاسم، فلما ارتحل سحنون بها،
عرضها على ابن القاسم فأصلح فيها كثير، وأسقط، ثم رتّبها سحنون، وبوّبها، واحتجّ
لكثيرٍ من مسائلها بالآثار، من مروياته.
وهكذا يعتبر كتاب المدونة في أصله أجوبة
سئل عنها عبد الرحمن ابن القاسم، فأجاب عنها بما سمعه من شيخه مالك، وكان إذا لم
يجد في المسألة رأيا له يجيب بالقياس والرأي.
وأول من سأل عنها أسد بن الفرات
فدون ما سمه وأضاف مسائل فقهية أخرى، وهي ما تسمى بـ"الأسدية"، وعنه تلقاها تلميذه
سحنون". ثم رحل بها سحنون إلى ابن القاسم، فعرض عليه ما سمعه من "أسد ابن الفرات"
فما كان من "ابن القاسم" إلا أن أسقط من الأسدية ما كان يشك في نسبته إلى "مالك"،
وما لم يجد فيه نصا يثق به، أفتاه على اجتهاده بمقتضى أصول "مالك".
من
أقواله
قال سحنون: إذا أتى الرجل مجلس القاضي ثلاثة أيّام متوالية بلا حاجة،
فينبغي أن لا تُقبل شهادته.
وسُئل: أيسع العالم أن يقول لا أدري فيما يدري؟ قال:
أمّا ما فيه كتاب أو سنّة ثابتة فلا، وأمّا ما كان من هذا الرأي فإنّه يسعه ذلك
لاَنّه لا يدري أمصيبٌ هو أم مخطىَ.
وعنه قال: كان بعض من مضى يريد أن يتكلم
بالكلمة، ولو تكلّم بها لانتفع بها خلق كثير فيحبسها، ولا يتكلم بها مخافة
المباهاة، وكان إذا أعجبه الصمت تكلّم، ويقول: أجرأ الناس على الفتيا، أقلُّهم
علماً.
وتوفّي سنة أربعين ومائتين