…الجهة الإجمالية : اختلف الأصوليون في قبول أخبار الآحاد جملة ؛ فإذا استدل المستدل على حكم من الأحكام بخبر الآحاد يعارضه المخالف إما بعدم تسليمه بصحة الخبر ، وإما بوروده فيما تعم به البلوى وتكثر إليه الحاجة ، وإما بغير ذلك من التعليلات الأصولية التي يقول بها المخالف ... كما إذا احتج فقهاؤنا على اشتراط الولي في النكاح بقوله ( (( لا نكاحَ إلا بولي )) (5) وعلى انتقاض الوضوء بمس الذكر بقوله ( (( إذا مس? أحدكم ذكره فليتوضأ )) (6) وعلى تحريم الأنبذة المسكرة بقوله ( (( كل? مُسكر حرام )) (7) ، فيقول المخالفون في هذه المسائل الثلاث : لا نسلم بصحة هذه الأحاديث فقد قال ابن معين : ثلاثة لا يصح فيها عن النبي ( شيء (
: (( لا نكاحَ إلا بولي وإذا مس? أحدُكم ذكره فليتوضأ وكل مسكر حرام )) فنيجيبهم بأن هذا القول على فرض صحة نسبته إلى ابن معين لا يُردّ به الحديث إذا جاء على شروطه لأن سبب الرد لم يبينه ابن معين ولعل له فيه مذهباً خاصاً لا يوافقه عليه غيره من أئمة الحديث والفقه ، وقد رووا هذه الأحاديث الثلاثة بأسانيد صحيحة لا تترك مجالاً للتردد في التسليم بصحتها وقوة الاستدلال بها .
…وكما إذا احتج الشافعية على أن المتبايعين لهما الخيار في إمضاء البيع وفسخه ما داما في المجلس بقوله ( (( البيّعان بالخيار ما لم يفترقا )) (9) ،
فيقول لهم الحنفية هذا خبر واحد فيما تعم به البلوى وتكثر إليه الحاجة فينبغي أن يكثر ناقلوه ويتواتر وما لم يتواتر فهو غير مقبول ، فيقول لهم الشافعية والمالكية أيضاً إن خبر الواحد مقبول عندنا مطلقاً إذا جاء على شروطه وإنما لم نقل نحن المالكية بخيار المجلس لأن الافتراق عندنا يتحقق بالقول أي بالإيجاب والقبول أو بالفعل الدال عليهما كما جرى عليه العمل في المدينة والعمل عندنا مرجح على الخبر . الجهة التفصيلية : يشترط لصحة السند أن يكون مقبول الرواة ، ومتصلاً مرفوعاً إلى النبي ( (10) .
…ويشترط لقبول الراوي أن يكون عدلاً وضابطاً .
فالعدل هو المسلم البالغ العاقل السالم من أسباب الفسق وخوارم المروءة ، وتثبت عدالته باشتهاره بحسن الحال وبالثناء الجميل عليه أو بتعديل الأئمة له ولو بروايتهم عنه .
…وتقدح في عدالة الراوي أمور بعضها يتعلق به وبعضها يتعلق بالحديث نفسه .
…فمما يتعلق بالراوي الاعتراض على عدالته بأنه متروك الحديث أو وضّاع أو مطعون في دينه أو مجهول العدالة أو بغير ذلك من القوادح ...
…مثال الأول اعتراض الشافعية على استدلالنا برواية خالد بن الياس بإسناده عن أبي هريرة : (( أن رسول الله ( كان ينهض في الصلاة على صدور قدميه )) فقلنا بعدم مشروعية جلسة الاستراحة عند النهوض إلى الركعة الثانية والرابعة وخالد متروك الحديث ؛ فنجيبهم بأن الحديث الذي استدللنا به على عدم مشروعية هذه الهيئة لم نروه من طريق خالد بإسناده عن أبي هريرة بل رويناه بأسانيد أخرى عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وغيرهم كما استدللنا أيضاً على عدم مشروعيتها بما رواه ابن المنذر عن النعمان بن عياش قال : (( أدركت غير واحد من أصحاب النبي ( فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة وفي الثالثة قام كما هو ولم يجلس )) .
…ومثال الثاني اعتراضنا على استدلال الحنفية الذين يعدّون داخل الفم والأنف من ظاهر البدن المفروض غسله على وجوب المضمضة والاستنشاق في الغُسل من الجنابة بما روي عن رسول الله ( أنه قال : (( المضمضة والاستنشاق فريضتان في الغسل من الجنابة )) لأن هذا الحديث لم يُروَ إلا من طريق بركة بن محمد وهو وضّاع كما قال الدارقطني ، فيجيبوننا بأنهم لم يستدلوا بهذا الخبر بل بما رواه الشيخان وأصحاب السنن
عن ميمونة (11) في وصف غسله ( وفيه المضمضة والاستنشاق واعتبروه مبيناً لمجمل قوله تعالى : (( وإن كنتم جنياً فاطّهروا )) فنقول لهم حينئذ أن ذكر المضمضة والاستنشاق في هذا الحديث لا يدل على وجوبهما بل على ندبهما ( سنيتهما ) كما هما في الوضوء المنفرد عن الغسل .
…ومثال الثالث اعتراض الشافعية على استدلالنا بقوله ( (( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة )) فقلنا بسقوط القراءة عن المأموم (12) بأن هذا الحديث لم يروه مرفوعاً إلا جابر الجعفي وهو يقول بالر?جعة (13) فلا يُحتج بما ينفرد بروايته ، فنجيبهم بأننا نروي هذا الحديث من غير طريق جابر الجعفي ، نرويه عن سفيان الثوري وسفيان بن عيينة وشعبة وشَريك وغيرهم من الثقات عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلاً عن النبي ( ، ونحن نأخذ بالحديث المرسل إذا كان مرسله ثقة وليس في سنده علة تضعفه . ونروي أيضاً عن مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل هل يقرأ أحد خلف الإمام قال : إذا صلى أحدكم خلف الإمام فحسبه قراءة الإمام وإذا صلى وحده فليقرأ .ومثال الرابع احتجاج فقهائنا على جواز استقبال القبلة أثناء قضاء الحاجة عند وجود ساتر بينه وبينها بما روى خالد بن أبي الصلت بإسناده عن عائشة قالت : (( ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن أناساً يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم فقال أوقد فعلوها حولوا مقعدتي قِبلَ القبلة )) (14) ، فيقول الحنفية : خالد بن أبي الصلت مجهول لا يعرف من هو والمجهول لا يحتج بروايته وتبقى حجتنا قائمة على تحريم استقبالها مطلقاً بما جاء في الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي ( قال
( إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شر?قوا أو غرّبوا )) ، فنقول لهم إن الحديث الذي رواه خالد بن أبي الصلت بإسناده عن عائشة رواه عنه خالد الحذاء وهو ثقة والثقة لا يروي إلا عن عدل معروف عنده على الأقل (15) وقد روى عن خالد بن أبي الصلت مبارك بن فضالة وواصل مولى أبي عيينة وغيرهما .وأما النهي عن استقبالها واستدبارها الوارد في حديث أبي أيوب فإنه محمول عليهما في الفضاء بلا ساتر ويدل عليه ما رواه أبوداود والحاكم عن مروان الأصفرقال (( رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة يبول إليها فقلت : أبا عبد الرحمن أليس قد نُهي عن ذلك ؟ فقال : بلى إنما نُهي عن هذا في الفضاء فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس )) .
…ومما يتعلق بالحديث نفسه إنكار الأصل وهو المروي عنه روايةَ الفرع أي رواية الراوي كما إذا احتج فقهاؤنا على افتقار النكاح إلى وليّ بقوله (
(( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل )) (16) ، فيقول الحنفية هذا الحديث يرويه ابن جُريج عن سليمان بن موسى عن ابن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة ، وقد قال ابن جريج سألت عنه ابن شهاب حين لقيته فقال لا أعرفه والراوي إذا أنكر ما روي عنه لم يُحتج به كالشهادة (17) ، فنجيبهم بأن الأصل لم يصرح بتكذيب الفرع فإذا روى عنه العدل وجب قبول ما روى ولا يضر نسيان المروي عنه وإلا لزم تكذيب العدل وفي ذلك من التناقض ما لا يخفى .
…ومنه انفراد العدل بزيادة في الحديث لم ترد في روايات الآخرين كما إذا احتج فقهاؤنا على أن زكاة الحرث يعتبر فيها النصاب بخمسة أوسُق . بما صح عن رسول الله ( أنه قال : (( فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثَرياً العشر وفيما سُقي بالنضج نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسُق )) (18) فيقول الحنفية إن جملة (( إذا بلغ خمسة أوسُق )) زيادة في هذا الحديث لأن الجماعة الذين رووه لم يذكروها فأوجب ذلك شكاً في صحتها ويبقى الحديث علىعمومه فتجب الزكاة في الكثيروالقليل من الحرث دون اعتبارلنصاب ، فيجيبهم فقهاؤنا بأن روايات الجماعة لا تتعارض مع هذه الزيادة حكماً لوجودها في حديث صحيح آخر يخصص عموم حديث الجماعة فقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( ليس فيما دون خمس ذَوْد صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة وليس فيما دون خمسة أوسُق صدقة )) (19) وبذلك ينتفي كل شك في صحتها وفي وجوب الأخذ بها .
…الضابط : هو المتقن للرواية وذلك بأن يثبت في نفسه ما يرويه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء أو يثبته في صحف يصونها ليؤديه منها. ويعرف ضبطه بمقابلة حديثه بحديث الثقات المتقنين .
…والاعتراض يرد عليه من وجهين :
(( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل )) (16) ، فيقول الحنفية هذا الحديث يرويه ابن جُريج عن سليمان بن موسى عن ابن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة ، وقد قال ابن جريج سألت عنه ابن شهاب حين لقيته فقال لا أعرفه والراوي إذا أنكر ما روي عنه لم يُحتج به كالشهادة (17) ، فنجيبهم بأن الأصل لم يصرح بتكذيب الفرع فإذا روى عنه العدل وجب قبول ما روى ولا يضر نسيان المروي عنه وإلا لزم تكذيب العدل وفي ذلك من التناقض ما لا يخفى .
…ومنه انفراد العدل بزيادة في الحديث لم ترد في روايات الآخرين كما إذا احتج فقهاؤنا على أن زكاة الحرث يعتبر فيها النصاب بخمسة أوسُق . بما صح عن رسول الله ( أنه قال : (( فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثَرياً العشر وفيما سُقي بالنضج نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسُق )) (18) فيقول الحنفية إن جملة (( إذا بلغ خمسة أوسُق )) زيادة في هذا الحديث لأن الجماعة الذين رووه لم يذكروها فأوجب ذلك شكاً في صحتها ويبقى الحديث علىعمومه فتجب الزكاة في الكثيروالقليل من الحرث دون اعتبارلنصاب ، فيجيبهم فقهاؤنا بأن روايات الجماعة لا تتعارض مع هذه الزيادة حكماً لوجودها في حديث صحيح آخر يخصص عموم حديث الجماعة فقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( ليس فيما دون خمس ذَوْد صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة وليس فيما دون خمسة أوسُق صدقة )) (19) وبذلك ينتفي كل شك في صحتها وفي وجوب الأخذ بها .
…الضابط : هو المتقن للرواية وذلك بأن يثبت في نفسه ما يرويه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء أو يثبته في صحف يصونها ليؤديه منها. ويعرف ضبطه بمقابلة حديثه بحديث الثقات المتقنين .
…والاعتراض يرد عليه من وجهين :الوجه الأول أن يكون الراوي كثير السهو والغفلة كما إذا احتج فقهاؤنا المغاربة لما رواه ابن القاسم عن الإمام من أن رفع اليدين في الصلاة ليس معروفاً إلا عند افتتاحها (20) بما روي عن علي بن أبي طالب (( أنه كان يرفع إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود )) ، فيقول فقهاؤنا المشارقة الذين أخذوا برواية ابن وهب وأشهب عن الإمام أنهما يرفعان أيضاً عند الركوع وعند الرفع منه : هذا الحديث يرويه يزيد بن أبي زياد الذي قال فيه رجال الحديث لقد ساء حفظه واختلط ذهنه في آخر عمره ، والحديث مع ذلك موقوف غير مرفوع . وقد روى أحمد وأصحاب السنن عن علي (( أن رسول الله ( كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبّر ورفع يديه حَذْو منكبيه ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع ويصنعه إذا رفع رأسه من الركوع )) . وروى أحمد والشيخان عن عبد الله بن عمر قال : (( كان النبي ( إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا بحذْو منكبيه ثم يكبر فإذا أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضاً وقال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد )) فيجيبهم فقهاؤنا المغاربة بأنهم لم يرووا حديث علي عن يزيد بن أبي زياد بل عن وكيع عن أبي بكر بن عبد الله المنهشلي عن عاصم بن كليب عن أبيه (( أن علياً كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود )) (21) . ويروون أيضاً عن وكيع عن محمد بن أبي ليلى عن عيسى أخيه والحكم عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب (( أن رسول الله ( كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يرفعهما حتى ينصرف )) (22) . ويروون كذلك عن وكيع عن سفيان الثوري عن عاصم عن عبد الرحمن بن الاسود عن الاسود وعلقمة قالا قال عبد الله بن مسعود : (( ألا أصلي بكم صلاة رسول الله ( قال فصلى ولم يرفع يديه إلا مرة )) (23) . يتابع ان شاء الله