بسم الله
السلام عليكم
ومع أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي ، رحمه الله ، شيخ الإسلام في زمانه ، قاضي ثغر سبتة الشهير ، نزيل غرناطة ، درة التاج الأندلسي ، علم المالكية في القرن السادس الهجري ، بل علم المغرب الحبيب بأسره في وقته ، إمام الحديث والنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم .
صاحب الشفا بتعريف حقوق المصطفى ، وهو كاسمه شفاء لعي من جهل شخص وكنه محمد صلى الله عليه وسلم .
وصاحب "المشارق" ، وهي مشارق أنوار سطعت على غريب ألفاظ آثار الصحاح الثلاثة ، (عند المالكية رحمهم الله) : موطأ مالك وصحيحي البخاري ومسلم ، فالمالكية ، يقدمون الموطأ على ما عداه من مصنفات السنة ، ولهم كبير عناية به ، وأهل المغرب أدرى منا بهذا الشأن .
ويبدو أن المغاربة ما فتئوا مخالفين للمشارقة في كثير من مسائل واصطلاحات العلوم :
فالأولون يقدمون صحيح مسلم ، على البخاري ، خلافا للمشهور عند أهل العلم قاطبة ، ولم يوافقهم من المشارقة إلا أبو علي النيسابوري رحمه الله .
والأولون لا يتشددون في صيغ التحمل والأداء فلا يفرقون بين "حدثنا" و "أخبرنا" ، فالكل عندهم سواء ، والآخرون يفرقون بين التحديث والإخبار فيجعلون الأول للفظ الشيخ القارئ أو المملي ، والثاني للفظ الراوي القارئ أمام شيخه من حفظ أو كتاب .
والأولون ، كما هو ظاهر اسم كتاب القاضي عياض ، رحمه الله ، (مشارق الأنوار على صحيح الآثار) ، يجعلون الآثار شاملة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الصحابة ، رضوان الله عليهم ، وتابعيهم ، عليهم من الله الرحمة ولهم الغفران ، والآخرون يقصرون الآثار على آثار الصحابة والتابعين ، ويخصون المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بــــ "الخبر" ، وهو اصطلاح أهل خراسان ، كما أشار إلى ذلك أبو القاسم الفوراني رحمه الله .
وأيا كان الأمر فإن المشارق كما وصفها الشاعر :
مشارق أنوار تبدت بسبتة ******* ومن عجب كون المشارق بالمغرب
فأجابه آخر بقوله :
وما شرف الأوطان إلا رجالها ******* وإلا فلا فضل لترب على ترب
فلا تشرف الأوطان إلا بأمثال ابن أبي زيد القيرواني ، وأبي الحسن القابسي ، وأبي عمران الفاسي وعبد الله بن ياسين وأبي بكر بن عمر اللمتوني ويوسف بن تاشفين وعياض وابني رشد الجد والحفيد ، وإن كان للحفيد من الزلات ما له ، وأبي الوليد الباجي ، وأبي بكر بن العربي وأبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي وأبي يوسف يعقوب المنصور المريني وابن خلدون ، وما أولئك إلا غيض من فيض أعلام المغرب ، ومن أراد الاستزادة فعليه بأمهات كتب السير والتراجم ولن يعدم المزيد فأمة المغرب ما فتئت تنجب الأكابر ، علماء وساسة ، ولا عجب فالفضل لأولي الفضل واجب .
وعياض ، رحمه الله ، شمس أئمة المغرب :
فقيه مالكي بارع ، ملم بأصول مذهبه وفروعه ، بل ورجالاته ، فصنف : "ترتيب المدارك وتقريب المسالك في معرفة أعلام مذهب مالك" ، وترجم فيه لطبقات المالكية رحمهم الله .
عالم بدقائق القفه ، فصنف "التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة" ، وجمع فيه فوائد وغرائب ، ولا يقوم لمثل هذا الأمر إلا فقيه عالم بالخلاف ، والعالم ، كما يقول حافظ المغرب ، ابن عبد البر ، رحمه الله ، هو الذي يعلم الخلاف .
عالم بالسنن والآثار ، فصنف "الإكمال" ، متمما به كتاب شيخه المازري ، رحمه الله ، "المعلم بفوائد كتاب مسلم" ، وكان هذا دأب أفاضل العلماء ، فلهم من البر بمشايخهم ما لهم ، فهم يتمون أعمالهم ولا يستأنفونها ، وإن كانوا لذلك أهلا .
عالم بالأصول ، فصنف "الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع" ، في أصول علم الحديث ، أو ما يعرف بــــ "مصطلح الحديث" .
مؤرخ عالم بأيام العرب وأنسابهم ، فصنف "جامع التاريخ" ، في التاريخ والطبقات ، وكتب الطبقات ، كتب يترجم مصنفوها لأعلام كل طبقة ، وفق اصطلاح خاص بكل مصنف ، فمنهم من يجعل الطبقة جيلا بأكمله ، ومنهم من يحدها بمائة أو تسعين أو ثمانين ............. سنة ، والله أعلم .
وصنف "تاريخ سبتة" ، وهو كتاب سار فيه على نهج من سبقه من الأئمة إلى التأريخ لبلد معين ، فيصف المؤرخ معالمها ويذكر خططها ، ويترجم لأعلامها ، ومن دخلها من الأعيان ، كما هو حال "تاريخ بغداد" لحافظ المشرق ، الخطيب البغدادي ، رحمه الله ، المتوفى سنة 463 هــــ ، وكتابه علم على هذا الفن ، و"تاريخ دمشق" لحافظ الشام ابن عساكر ، رحمه الله ، و"التدوين في أخبار قزوين" و "بغية الطلب في أخبار حلب" ، و"تاريخ أصبهان" .......... الخ ، والله أعلم .
كما صنف "الغنية" ، وترجم فيه لمشايخه ، فرحمه الله ، ما كان أشد وفائه ولا يعرف الفضل إلا ذووه .
خطيب مفوه ، فصنف "الخطب" ، وفيه خمسون من خطب الجمع .
ملم بالآداب ، فلا يكمل العلم إلا بالأدب ، فصنف "غنية الكاتب وبغية الطالب" في الأدب والإنشاء .
ومع كل هذا الإنتاج العلمي الغزير ، لم يكن عياض ، رحمه الله ، من ساكني البروج العاجية ، وإنما كان معالجا لأمور أمته ، تولى قضاء بلده في التاسعة والثلاثين من عمره ، وظل متربعا على كرسي القضاء ستة عشر عاما ، فأقام الحدود على ضروبها ، وسار بطريقة محمودة وحال مشكورة فحمد الناس سيرته ، وعرفوا له فضله وإمامته ، حتى كنوه بــــ "أبي الفضل" ، رغم أنه لم يولد له ولد بهذا الاسم ، وإنما اعترافا بفضله وإمامته ، فاستحق الصدارة ، وكعادة المترفين ، ضاق بعض الأمراء بحزم عياض وعدله ، فسعوا به ، حتى صدر الأمر بتوليه قضاء غرناطة ، فرحل إليها ممتثلا ، ولم يرق هذا للفقيه أبي الحسن بن هارون المالقي ، رحمه الله ، إذ رأى فيه ظلما وتعنتا ، فلم يأت عياض ، رحمه الله ، ما يوجب إبعاده عن بلده سبتة ، فانبرى مدافعا عنه بأبيات حفظتها ذاكرة التاريخ :
ظلموا عياض وهو يحلم عنهم ******* والظلم بين العالمين قديم
جعلوا مكان الراء عينا في اسمه ******* كي يكتموه وإنه لمعلوم
لولاه ما فاحت بطائح سبتة ******* والروض حول فنائها معدوم
واستقبله أهلها استقبال الفاتحين ، ولكن مترفي غرناطة كمترفي سبتة ، كمترفي أي زمان ، لا يقر لهم قرار بجوار أمثال عياض ، فسعوا به ثانية ، فأخرج من غرناطة إلى المغرب ، وعاد الغريب إلى أرضه ، لينشر فيها علوم الملة ، وفي أواخر عهد المرابطين ، وبالتحديد في عام 539 هــــ ، دعي مرة أخرى لتولي قضاء بلده "سبتة" ، فابتهج الناس أيما ابتهاج ، وقد عاد الشيخ الجليل ، وهو في الثالثة والستين ، لتولي قضائهم ، بل قل : لتولي أمرهم ، فهو أميرهم المسود بلا تاج أو صولجان .
ومع نهاية دولة المرابطين السنية ، وظهور دولة الموحدين الأشعرية ، على يد الداهية ، غلاب الدول ، مقوض أركان دولة المرابطين ، وصاحب الأمر من بعدهم ، الأمير عبد المؤمن بن علي الكومي ، بدأ عياض ، رحمه الله ، مرحلة جديدة وأخيرة من الجهاد ، ولكنه كان جهادا سياسيا عسكريا هذه المرة ، فكان ميدانه ساحات السياسة والحرب لا ساحات الحلق والدرس ، فرأى عياض ، رحمه الله ، من انحراف منهج الموحدين ما رأى ، وخاصة في مسائل العقيدة ولعل أبرزها وأخطرها : القول بعصمة المبتدع محمد بن تومرت ، صاحب دعوة الموحدين ، الخارج على سلطان الأمير علي بن يوسف بن تاشفين رحمه الله الإمام الشرعي لبلاد المغرب ، سفاك الدماء ، المنتسب زورا لآل البيت ، ناهيك عن أشعريته المفرطة ، وجل متأخري الأشاعرة متعصبون ، يرمون أهل السنة والجماعة ، بعظائم الأمور ، فقد جمع ابن تومرت عدة بدع بعضها أغلظ من بعض ، ففيه انحراف عن منهج أهل السنة والجماعة في مسألة الأسماء والصفات ، فهم يثبتونها على الوجه الذي يليق بجلال الله ، دون تحريف ولا تعطيل ودون تمثيل ولا تكييف ، فالمعاني عندهم واضحة معروفة من لغة العرب التي تكلموا بها ، وجاء بها التنزيل ، والكيفيات مجهولة ، لا يعلم كنهها إلا الله ، عز وجل ، فهي محكمة المعاني متشابهة الكيفيات ، وعليه قال العلماء بأن الاجتهاد في تحصيل المعاني محمود خلاف محاولة إدراك الكيفيات فهو مذموم ، ولن تهتدي به عقول البشر لكنه ذات الله ، عز وجل ، وصفاته ، مهما أوتيت من فطنة وذكاء ، وهو من الأشاعرة الذين يؤولون الصفات الذاتية الخبرية ، التي لا تعلم إلا بالسمع ، أي الدليل النصي الصحيح ، كصفة اليد والعين والإصبع .......... الخ ، والصفات الفعلية التي تتعلق بالمشيئة كالرضا والغضب ، بزعم أنها تقتضي الحدوث ، والله ، عز وجل منزه عن الحوادث ، ولا يلزم من إثباتها القول بالحدوث ، بل هي قديمة النوع ، قدم ذات الله ، عز وجل ، حادثة الأفراد ، فأصل الصفة قديم ، وأما أفرادها كغضبه ، عز وجل ، على فرعون أو قارون أو أي عاص ، فهو حادث بحدوث سببه من فسق فاسق أو معصية عاص ، مع التحفظ على وصف الله ، عز وجل بالقدم ، وإنما هي مصطلحات القوم ، ومن أراد خطاب قوم وجب عليه تعلم لسانهم وإن كانوا عجما ، ناهيك عن بقية المسائل التي خالف فيها الأشاعرة أهل السنة ، كمسائل الإيمان وحده ، (من الحد وهو التعريف) ، فغالب الأشاعرة مرجئة في باب الإيمان ، يقصرونه على الاعتقاد والقول دون العمل ، خلاف أهل السنة الذين يدخلون العمل في الإيمان ، كشرط كمال واجب أو مستحب ، على تفصيل يطلب من كتب العقائد ، ومسائل الاستدلال على وجود الله ، عز وجل ، فلديهم ، كما يقول الشيخ الدكتور سفر الحوالي ، هداه الله ، دليل يتيم على ذلك وهو : القول بحدوث الكون ، والكون لا بد له من محدث ، على تفصيل لا يتسع المقام لذكره ، وفيه تشيع يتضح من ادعائه العصمة ، وهي إحدى بدع الرافضة ، قبحهم الله ، وفيه من بدعة الخوارج الذين يخرجون على الأئمة بالسيف ، ويستحلون الدماء والأعراض والأموال .
كل هذا الغي والضلال أدى بعياض ، رحمه الله ، إلى أن يجتهد ، فأداه اجتهاده إلى نقض بيعة الموحدين ، وعقد البيعة للأمير المرابطي : يحيى بن علي المسوفي المعروف بـــــ "يحيى بن غانية" ، فالمرابطون هم أصحاب الحق الشرعي في الإمارة ، والموحدون متغلبون بحد السيف ، وعقد البيعة لهم محل نظر ، فمن اجتهد ورأى أنهم أصحاب الأمر ، وإن تغلبوا بحد السيف ، فعقد لهم البيعة فهو على خير ، ومن رأى أنهم خارجون على سلطان دولة المرابطين الشرعي ، فنقض بيعتهم ، فقد اجتهد هو الآخر ، ولا إثم عليه إن كان من أهل العلم ، ومن أولى بالعلم من عياض ؟!!! .
ودارت الدوائر على سبتة ، فاستطاعت جيوش الموحدين أن تخضعها من جديد ، فأعاد أهلها البيعة للموحدين ، ولكن الداهية عبد المؤمن لم يقبل بيعتهم إلا بعد أن اشترط عليهم إبعاد عياض ، رحمه الله ، من سبتة ، ليبدأ الفصل الأخير في حياة قاضينا الحبيب ، وعالمنا الجليل ، وحيدا غريبا ، في مدينة "داي" ، يناجي حمامة مرت به وقد ألهبت سياط الشوق إلى سبتة فؤاده ، يناجيها قائلا :
أقمرية الأدواح
بالله طارحي ***
**** أخا شجي
بالنوح أو بغناء
فقد أرقتني من هديلك رنة ******* تهيج من شوقي ومن برحائي
لعلك مثلي يا حمام فإنني ******* غريب "بداي" قد بليت بداء
فكم من فلاة بين "داي" و"سبتة" ******* وخرق بعيد الخافقين قواء
تصفق فيه للرياح خوافق ******* كما ضعضعتني زفرة الصعداء
يذكرني سح المياه بأرضها ******* دموعا أريقت يوم بنت ورائي
ويعجبني في سهلها وحزونها ******* خمائل أشجار ترف لرائي
لعل الذي كان التفرق حكمه ******* سيجمع منا الشمل بعد تنائي
وكانت النهاية سنة 544 هــــ ، في المنفى بعيدا عن الأهل والأحباب ، ودفن ، رحمه الله ، في مراكش ، الحبيبة ، قاعدة المغرب ، وكأني به كابن حزم ، رحمه الله ، وقد وافاه الأجل في "لبلة" ، غريبا بعيدا عن أهله وأحبابه في "قرطبة" ، ومن تتبع سير العلماء رأى العجب العجاب في حلهم وترحالهم وغربتهم عن أوطانهم ومحنهم التي نزلت بهم .
وهذه الدار لا تبقي على أحد ******* ولا يدوم على حال لها شان
مقتبس من كتاب "تاريخ دولتي المرابطين والموحدين في الشمال الإفريقي" بتصرف